الابتكار.. ممارسة وليس شعار
بين ما يُقال، وما يُمارَس
في السنوات الأخيرة، أصبح الابتكار من أكثر المفاهيم تداولًا في بيئات الأعمال والمؤسسات العامة والخاصة.
نسمع عنه كثيرًا، نراه في العروض التقديمية، ونقرأه في الاستراتيجيات والتقارير السنوية.
لكن التحدي الحقيقي ليس في ذكر الكلمة، بل في ممارستها.
وهنا تحديدًا، تظهر الفجوة:
كم جهة تقول إنها “مبتكرة”؟ وكم جهة تُثبت ذلك فعليًا؟
الابتكار ليس مجرد فكرة جديدة
قبل أن نُقيّم من يُجيد الابتكار ومن لا يُجيده، من المهم التمييز بين “الاختراع” و”الابتكار”:
- الاختراع هو إيجاد شيء جديد تمامًا.
- أما الابتكار، فهو أن تُقدَّم فكرة — قد تكون موجودة — بطريقة تغيّر الواقع، وتحل مشكلة فعلية، وتضيف قيمة حقيقية للمستفيد.
بمعنى آخر:
الابتكار لا يُقاس بجِدّة الفكرة، بل بعمق أثرها حين تُنفذ.
للأسف.. حين يُمارَس الابتكار كواجهة لا كمنهج
في بعض البيئات المؤسسية، يُستخدم الابتكار كواجهة ظاهرية أكثر من كونه مسارًا حقيقيًا للتغيير.
يُؤسَّس “معمل”، تُنظم “ورشة تصميم”، تُطرح أفكار، تُصمّم شعارات… ثم تُرفع النتائج في تقرير داخلي.
لكن لا نموذج أولي، لا تجربة فعلية، لا تنفيذ.
هذا ليس ابتكارًا. بل تجميل لمساحة تقليدية، باستخدام مصطلحات جديدة.
الخطورة هنا لا تكمن فقط في غياب النتيجة، بل في خلق وهم التقدّم.
حين تعتقد الجهات أنها “أنجزت” بمجرد كتابة كلمة “ابتكار”، فإنها تغلق الباب أمام المحاولة الجادة، وتُسقِط مفهوم الابتكار نفسه في أعين منسوبها.
الابتكار ليس فعالية عابرة في أجندة أسبوعية.
ولا هو حملة دعائية تُستثمر للترويج المؤسسي.
هو التزام يظهر في سلوك المؤسسة، في طريقة اتخاذ القرار، في قدرتها على إعادة تقييم ذاتها.
الابتكار لا يعني التقنية فقط
من الأخطاء المتكررة ربط الابتكار بالتقنية وحدها.
الابتكار قد يُستخدم فيها، لكنه لا يُختزل بها.
الابتكار الحقيقي قد يكون على سبيل المثال:
- في تعديل سياسة داخلية كانت تُعيق الإنتاجية.
- أو في تبسيط إجراء إداري يُربك المستفيد.
- أو في تطوير نموذج عمل يخدم جمهورًا جديدًا لم يكن محسوبًا.
- أو في خلق تعاون غير تقليدي بين جهات لم تجتمع من قبل.
بعض أقوى الابتكارات لم تكن اختراعات تقنية، بل قرارات ذكية غيّرت الاتجاه.
ابتكار نتفلكس (Netflix) لم يبدأ بخوارزميات، بل برؤية مختلفة لطريقة استهلاك المحتوى.
ستاربكس (Starbucks) لم تبتكر القهوة، بل ابتكرت تجربة كاملة حولها.
حتى شركات الشحن مثل (UPS) حققت قفزات كبيرة فقط بتغيير ترتيب التوقفات اليومية للسائقين بناءً على البيانات.
ما يجمع كل هذه النماذج هو أمر واحد:
الابتكار يبدأ من سؤال جوهري: هل هناك طريقة أفضل؟
ثم يذهب للبحث في كل شيء: الإجراءات، الأشخاص، العلاقات، الثقافة، قبل أن يصل — إن احتاج — إلى التقنية.
نماذج من الابتكار… كما يجب أن يكون:
وطننا المملكة العربية السعودية – حين يكون الابتكار فعلًا جماعيًا 🇸🇦
في وطننا، المملكة العربية السعودية، الابتكار لم يكن مجرد توجه عابر، بل خيار استراتيجي حقيقي، مدعوم برؤية واضحة، وقيادة حكيمة ترى أن تجربة الإنسان هي المحور.
وكمواطنة سعودية، أقولها بكل فخر: أنا لا أسمع عن هذه النماذج… أنا أعيشها، ألمسها كل يوم، وأراها تتحسن باستمرار.
التحول الرقمي في السعودية تجاوز مسألة “توفير خدمة” إلى إعادة بناء التجربة بالكامل.
ما حدث كان ابتكارًا على مستوى رحلة المستخدم نفسها.
من لحظة الدخول إلى الخدمة، إلى وضوح اللغة وسهولة الواجهة، إلى استلام الإشعارات، إلى إنهاء الإجراء بسرعة وشفافية، ثم تلقي تغذية راجعة، كل ذلك يتم بسلاسة تدلّ على نضج في التفكير، وتكامل في التنفيذ.
السلاسة لم تأتِ من بساطة الواجهة فقط، بل من تنسيق مؤسسي بين أطراف مختلفة تعمل كمنظومة واحدة، لا كجهات منفصلة.
المستخدم اليوم لا يشعر أنه يتنقل بين أنظمة… لأن التجربة أصبحت “واحدة”، ومرتكزها الأساسي هو راحته.
وهذا النجاح ما كان ليحدث لولا التحوّل في طريقة التفكير، ووجود قيادة وكفاءات تؤمن أن المواطن يستحق الأفضل، وتعمل على ذلك بكل صدق.
وما يميز هذا النموذج أن مجتمعنا نفسه كان مستعدًا لهذا التحوّل، وتفاعل معه بمرونة، وساهم في تطويره باستمرار.
الابتكار في السعودية ليس مجرد قصة نجاح… بل تجربة حقيقية مستمرة، نعيشها ونكبر بها.
-
ابتكارM-Pesa خارج الإطار التقني المعتاد، في كينيا!
في كينيا، حيث البنية التحتية البنكية محدودة، ووجود الإنترنت ليس مضمونًا، ظهرت خدمة M-Pesa كحل عملي بسيط… لكن عميق في أثره.
الفكرة لم تبدأ من التقنية، بل من فهم حقيقي للبيئة وسلوك الناس.
- الناس يملكون هواتف بسيطة (غير ذكية).
- لا يوجد حسابات بنكية للغالبية.
- التحويلات المالية غالبًا تُجرى يدويًا، أو عبر وسطاء.
فماذا حدث؟
صُمم نظام يعتمد على الرسائل النصية فقط (SMS) لتحويل الأموال، دون الحاجة إلى إنترنت أو تطبيق.
نقاط البيع انتشرت في الأكشاك، وربطت العملية كلها بهوية المستخدم عبر رقمه فقط.
النتيجة؟
- أكثر من 90% من السكان أصبح لديهم وسيلة دفع رقمية.
- الاقتصاد غير الرسمي أصبح أكثر شفافية.
- وانفتحت آفاق جديدة للنساء، والمجتمعات الريفية.
هذا هو الابتكار الحقيقي:
أن تبدأ من الواقع، وتُخرج منه حلاً قابلًا للتطبيق… لا أن تفرض عليه فكرة جاهزة.
-
ابتكار Amazon كتراكم يومي
شركة Amazon لم تخترع التجارة الإلكترونية. لكنها غيّرت تمامًا الطريقة التي نشتري بها، نفكر بها، نثق بها.
ما الذي يجعل تجربتها مختلفة؟
- تستخدم البيانات في كل قرار، من العرض إلى التغليف.
- أدخلت زر الشراء بنقرة واحدة، وغيرت بذلك سلوك الشراء حول العالم.
- اختبرت التوصيل بالطائرات، ووزعت المخازن بطريقة ذكية تقلل المسافة والتكلفة.
الابتكار في Amazon لم يكن لحظة عبقرية، بل نظام مستمر من التحسين والاختبار والانتباه الدقيق لتجربة العميل.
الابتكار لا يحتاج إلى إذن!
الابتكار الحقيقي لا يبدأ من مكتب الإدارة،
بل من الميدان. من الموظف الذي يسأل “لماذا؟”،
من الفريق الذي يجرّب،
من الجهة التي تُبقي التركيز على التجربة،
لا على الإجراء.
الابتكار لا يحتاج إلى ضوء أخضر…
بل إلى بيئة تحتمل الخطأ، وتكافئ التعلّم، وتُقدّر التغيير.
…
الابتكار ليس خطوة نضيفها في خطة ربع سنوية، ولا مجرد علامة في ملف التقييم.
هو طريقة تفكير، ومسار تنفيذي، وشجاعة مؤسسية تعترف بأن ما كان صالحًا بالأمس… قد لا يكون كافيًا اليوم.
وكل جهة تريد أن تبقى فاعلة في المستقبل، لا يكفي أن تتحدث عن الابتكار.
عليها أن تخوضه.