أن تملك الشيء، دون أن يُقيّدك (عن الزهد)
حين يُذكر الزهد، ما الذي يتبادر إلى ذهنك؟
غالبًا: صورة شخص ينسحب من الحياة، يرفض المال، ويتخلّى عن المتع.
تُختزل الفكرة في مشهد تقشفي جامد، كأن الزهد يعني أن تُفرغ حياتك من كل شيء.
لكن… هل هذا هو الزهد فعلًا؟
وهل هو شيء يمكن أن نعيشه اليوم، في هذا العالم المليء بكل شيء؟
قال الإمام أحمد بن حنبل:
“الزهد في الدنيا: قصر الأمل، وليس بأكل الغليظ، ولا لبس العباء.”
الزهد، كما يصفه الإمام، لا يكون في الطعام الغليظ — أي الطعام البسيط القاسي —
ولا في لبس العباء الخشنة — أي الثياب الرخيصة التي يُظن أن ارتداءها دليل على الزهد.
بل هو في قصر الأمل: أن لا يطيل الإنسان التعلّق بالغد، ولا يعيش وكأن ما بين يديه باقٍ لا يزول.
أن يدرك أن كل ما يُمنح قد يُسلب، وكل ما يملكه قد يختفي… دون أن يهتزّ من الداخل.
ما الفرق بين الزهد والتقليل (Minimalism)؟
قد نخلط بين الزهد ونمط الحياة البسيطة، لكن بينهما فرق واضح في العمق:
- التقليل يهتم بعدد الأشياء.
- الزهد يهتم بمقدار التعلّق بها.
التقليل نمط حياة جميل وضروري لكثير من الناس.
لكنه لا يعني بالضرورة أن الشخص زاهد من الداخل.
فقد تكون حياتك مرتبة وخفيفة، لكنك لا تحتمل فقدان ما فيها.
وقد تملك الكثير، ومع ذلك، قلبك لا يسكنه شيء.
كيف يبدو الزهد في الحياة الواقعية؟
تخيّل أنك تودّع مرحلة كانت تعني لك الكثير: عمل أحببته، علاقة انتهت، أو حتى نسخة من نفسك لم تعد تشبهك.
الزهد لا يعني أن تمرّ دون ألم، بل أن تمرّ دون انهيار.
أن تحتفظ بقلبك سليمًا، حتى حين تتغيّر الأشياء التي كنت تظن أنها ثابتة.
الزهد ليس برودًا… بل نضجًا في التعلّق.
أن تعيش ممتنًّا، وتترك برفق، وتستمر بخفة.
فماذا يعني “الزهد” في اللغة؟
في اللغة، الزهد يعني: ترك الشيء رغبة عنه، لا لعدم وجوده، بل لقلة قيمته في النفس.
وفي فهم العلماء، هو أن لا يجعل الإنسان من الدنيا موضع أمانه ولا مركز ثقله، حتى وإن كانت بين يديه.
كما كتب إبكتيتوس:
“الثروة لا تكمن في ما نملكه، بل في قدرتنا على الاستغناء عنه.”
وكيف يمكنني أن أكون زاهدًا؟
الزهد ليس قرارًا لحظيًا، بل ممارسة داخلية هادئة.
- كلما لاحظت أنك تعطي لشيء أكبر من حجمه، توقّف واسأل:هل هذا يخدمني… أم يربطني؟
- كلما شعرت بالخوف من فقدان شيء، ذكّر نفسك أنك تملكه، لكنه لا يملكك.
- وكلما مرّ بك فقد أو تغيّر، جرّب أن تحزن… دون أن تنهار.أن تتألم دون أن تفقد نفسك.
الزهد لا يُرى. لكنه يُشعر…
في خفة القلب، في ردّة الفعل، وفي السلام الذي يبقى، حتى حين لا يبقى شيء.
هو الذي يجعل ثباتك لا يعتمد على ما تملك.
تتغيّر ظروفك… تقل أو تزيد… لكنك لا تتهدّم من الداخل.
الزهد يمنحك مساحة لترى نفسك كما هي، لا كما تبدو في عيون الناس، ولا كما ترتبط بما تملك.
يُحرّرك من الركض، من الخوف، من الاستهلاك العاطفي،
ويتركك أمام لحظتك… حاضرًا فيها، ممتنًّا لها، دون توق أو مقاومة.
هو لا يُطفئ الحب، لكنه يحميك من التعلّق.
لا يمنع الفرح، لكنه يجعله نقيًا… غير مشروط.