تخطى الى المحتوى

ثبات الداخل… وهدوء التعامل مع الخارج

اثير
اثير

عن أولئك الذين لا يحتاجون للكثير ليشعروا بالكفاية

في عالمٍ لا يهدأ، تتكاثر فيه التفاصيل وتُرفع فيه معايير الحضور، يصبح “الثبات الداخلي” فضيلة نادرة.

نادرة لدرجة أن البعض يظنها جمودًا، أو برودًا، أو حتى لامبالاة. لكنها، في حقيقتها، نوع من العمق الذي لا يصدر صوتًا.

أن تكون ثابتًا في الداخل لا يعني أنك ترفض التغيير، بل أنك تملك أرضًا صلبة تقف عليها حين يتغيّر كل شيء حولك.

هو نمط لا يبحث عن الإثبات من الخارج، ولا يهتز لأجل التكيّف مع كل متغير. بل ينصت، ويفهم، ويختار بعناية متى يتحرك، وكيف، ولأجل ماذا.

بين الداخل والخارج: أيّهما يقود الآخر؟

الكثير من المدارس النفسية والاجتماعية انشغلت بهذا السؤال.

وفي علم الأعصاب، يُشار أحيانًا إلى نوع من الأشخاص يُوصف بأن لديه “Internal Locus of Evaluation”

أي أن تقييمه للأمور، ولقيمته الذاتية، ينبع من داخله، لا من استجابة الآخرين.

هؤلاء الأشخاص لا يتغذّون على الانتباه الخارجي، بل على وضوح البوصلة الداخلية.

وهنا لا بد أن نذكر قول العالم النفسي Carl Rogers الذي وضع هذا المفهوم ضمن نظرية الذات لديه، قائلًا:

“حين يتوقف الإنسان عن محاولة أن يكون ما يريده الآخرون، يبدأ بالتحول إلى ما هو عليه فعلًا.”

وفي هذا السياق، الثبات الداخلي لا يعني التوقف عن التطوّر، بل يعني أن يكون التغيّر نابعًا من الداخل، لا مدفوعًا بضغط الخارج.

لماذا لا يلحظ هذا النمط كل التفاصيل؟

لأن انتباهه ليس مشدودًا للخارج طوال الوقت.

الدماغ البشري، كما تشير أبحاث علم الأعصاب، لا يستطيع أن يتعامل مع كل المنبّهات في آنٍ واحد.

في دراسة لجامعة ستانفورد عن الانتباه الانتقائي (Selective Attention)، وُجد أن الناس الذين يملكون توجهًا داخليًا أكثر،

يميلون إلى تجاهل الضوضاء البصرية والمحفزات السطحية، لأن نظامهم العصبي ببساطة ينظّم الأولويات بشكل مختلف.

هم لا يكرهون الزينة، ولا يفتقرون إلى الذوق،

لكنهم ببساطة لا يرون أن كل شيء يستحق التوقّف.

يركّزون فيما يعنيهم.

ويصمتون عما لا يعنيهم.

وفي القرآن الكريم، حين وصف الله أهل الإدراك والبصيرة، جاء الوصف بصيغة حضور هادئ لا يعلو على الناس، ولا يتصنّع أثره:

“وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا” [الفرقان: 63]

فالهَون هنا ليس ضعفًا، بل تماسك نفسي لا يحتاج إلى رفع الصوت، ولا إلى إثبات الحضور.

هل هذا النمط أقل كفاءة اجتماعية؟

لا. لكنه لا يبدأ من الخارج.

في كتاب The Road to Character للمؤلف David Brooks،

يطرح الكاتب فرقًا بين ما يسميه “Résumé virtues” (فضائل السيرة الذاتية) و"Eulogy virtues" (فضائل التأبين، أو الصفات التي يُذكر بها الإنسان بعد رحيله).

النوع الأول يتعلّق بما نُظهره للناس: إنجازات، مهارات، جوائز.

أما النوع الثاني، فيتعلّق بما نكونه حقًا: الصدق، التواضع، الاتساق.

الثابت داخليًا قد لا يكون الأسرع في الترويج لنفسه، لكنه غالبًا الأكثر أثرًا على المدى البعيد.

لأنه لا يحاول أن “يأخذ مكانه”، بل يصنعه، بصبر، وهدوء.


وتذكّر…

ليس المطلوب أن ترفض كل ما هو خارجي، أو أن تعيش بلا تفاصيل،

بل أن تختار ما يليق بك، لا ما يُفرض عليك.

أن تُحيط نفسك بما تحتاجه فعلًا، لا بما يملأ الفراغ مؤقتًا.

أن تعرف الفرق بين ما “يناسبك”، وما “يُتوقّع منك”.

أن تتعامل مع العالم من خلال ما يفيدك، ويضيف لك، ويُشبِهك… لا ما يُرضي الجميع.

وحين تعيش بهذا الوعي،

ستعرف كيف تصنع مكانًا خفيفًا، لكنه غني.

وكيف تُحافظ على الداخل… دون أن يُشوّشك الخارج.

الداخل والروح

المنشورات ذات الصلة

التقدّم البطيء.. حين نعيد فهم معنى التغيّر

نبدأ بشغف. نضع الأهداف، نخطط، نتحمّس، ونتحرّك. ثم، مع مرور الأيام، تبدأ الخطوة بالتباطؤ، ويتسلل الشك: هل ما أفعله يُحدِث فرقًا؟ أم أنني أُرهق نفسي دون نتيجة؟ ما يُربك في التقدّم البطيء أنه لا يَمنحنا إشارات فورية. لا يُكافئنا سريعً

لا أحد يملأ الفراغ… والله وحده يفعل

تمهيد لا بد منه… هناك شعور يصعب الإمساك به أو تسميته بدقة. هو ليس حزنًا واضحًا، ولا فرحًا ناقصًا… بل فراغ. فراغ داخلي، كأن شيئًا ما فيك ناقص، حتى لو بدا كل شيء في الخارج مستقرًا. أحيانًا، يظهر هذا الفراغ فجأة. وأحيانًا

أن تملك الشيء، دون أن يُقيّدك (عن الزهد)

حين يُذكر الزهد، ما الذي يتبادر إلى ذهنك؟ غالبًا: صورة شخص ينسحب من الحياة، يرفض المال، ويتخلّى عن المتع. تُختزل الفكرة في مشهد تقشفي جامد، كأن الزهد يعني أن تُفرغ حياتك من كل شيء. لكن… هل هذا هو الزهد فعلًا؟ وهل هو شيء يمكن